مقالات

استنتاجات صادمة وغير متوقعة من ولد محمد صالح لفرانك فوني

يحكى فيما يحكى أن أبا ثريا كان يملك قصرا فخما، قرر ذات يوم أن يأخذ ابنه في رحلة إلى بلدة فقيرة في الريف لا يسكنها إلا الفقراء، وكان الأب يريد من تلك الرحلة أن ينبه ابنه إلى أنه يعيش في نعيم ورخاء حُرم منه الكثير من أطفال الفقراء. قضى الأب وابنه أياما في ضيافة أسرة فقيرة جدا كانت تسكن في مزرعة بالبلدة الفقيرة، وفي طريق العودة دار بين الأب والابن الحوار التالي:

 

الأب : كيف كانت الرحلة ؟

الابن : كانت رحلة رائعة

الأب : هل شاهدت يا ابني كيف يعيش أهل هذه البلدة، وكيف كانت تعيش الأسرة التي أقمنا عندها؟

الابن : نعم يا أبي لقد شاهدتُ كل ذلك، فالأسرة التي أقمنا عندها تملك أربعة كلاب ونحن لا نملك إلا كلبا واحدا، وهي تملك بركة ماء لا حدود لها ونحن في منزلنا لا نملك إلا حوض سباحة صغير، ونحن نضيء حديقتنا الصغيرة بمصابيح، أما هم فإنهم يضيئون حديقتهم ذات المساحة الواسعة بنجوم تتلألأ في السماء، وباحة منزلنا ضيقة في حين أن باحة منزلهم تمتد مع الأفق.

ظل الوالد يستمع لمقارنات الابن الغريبة دون أن يعلق عليها، وذلك من قبل أن يختم الابن حديثه بالاستنتاج التالي:

لقد عرفتُ يا أبي كم نحن فقراء، وكم هم أغنياء!!

(2)

يتراجع نفوذ فرنسا في إفريقيا، وتتراجع مكانتها، ولم تسلم لغتها من ذلك التراجع، ومن مظاهر ذلك التراجع خروج مالي والنيجر وبوركينافاسو من العباءة الفرنسية، بالنسبة لمالي فقد جعلت اللغة العربية إحدى لغاتها الرسمية في دستورها الجديد، وألغت رسمية اللغة الفرنسية، واحتفظت بها لغة عمل ربما في انتظار التخلص منها مستقبلا، وفي الجزائر والمغرب يتنامى التوجه لإبدال اللغة الفرنسية باللغة الإنجليزية، وفيما يخص المغرب فإن الملك المغربي قد رفض بعد الزلزال الأخير الرد على مكالمة من الرئيس الفرنسي، كما رفض أيضا تسلم مساعدات من فرنسا، هذا فضلا عن عدم موافقته لزيارة ماكرون للمغرب.

ومن قبل ذلك كله تخلت رواندا عن الفرنسية وأبدلتها بالإنجليزية، ومنذ عامين انسحبت دولة الغابون من منظمة لفرانكفونية، والتحقت بمجموعة الكومنولث الناطقة بالإنجليزية.

في المقابل فإن عدد الناطقين باللغة العربية في ازدياد، واليوم تحتل اللغة العربية الرتبة الرابعة عالميا، والثانية إفريقيا.

وفي العام 2015 نشرت جريدة الاندبدنت البريطانية اعتمادا على دراسة صادرة عن المجلس الثقافي البريطاني تقريرا تحت عنوان: “انسوا الفرنسية والصينية …العربية هي اللغة التي يجب تعلمها”.

كنا نتوقع من معالي وزير الاقتصاد أن يقرأ كل هذه الأحداث قراءة موضوعية، وأن يقرر بناءً على تلك القراءة تعريب إجراءات الصفقات العمومية، وتعريب كل الوثائق والمراسلات الخاصة بوزارته، احتراما للدستور الموريتاني أولا، وانسجاما مع رغبة الممولين ثانيا، واسمحوا لي هنا أن افتح قوسا قصيرا لأبين إحدى مغالطات معالي الوزير في خرجته الأخيرة (سأخصص المقال القادم إن شاء الله للحديث بشكل مفصل عن مغالطات الوزير في تلك الخرجة).

إن أكثر من نصف تمويلات المشاريع في موريتانيا تأتي من خزينة الدولة، ومن المفترض أن تكون لغة إجراءات الصفقات العمومية بالنسبة للمشاريع التي تمولها الدولة الموريتانية هي اللغة الرسمية للبلد. أما التمويلات الخارجية، والتي تزيد قليلا على نسبة 40% من مجموع التمويلات، فإنها تنقسم إلى عدة أقسام، أهمها التمويلات الكبرى الخاصة بالبنية التحتية (الطرق ، المياه ..إلخ)، فهذه التمويلات تأتي من الصناديق العربية، وهي تفضل دائما أن تكون اللغة العربية هي لغة إجراءات الصفقات العمومية، بل إن بعض هذه الصناديق أصبح يفرض على القطاعات المستفيدة استخدام اللغة العربية في إجراءات الصفقات العمومية، وهو ما تستجيب له تلك القطاعات، والتي كانت ترفض الاستجابة لمقتضيات الدستور الموريتاني، ففرض عليها الممول أن تستجيب لمقتضيات دستورها!

تأتي في المرتبة الثانية بعد تمويلات الصناديق العربية تمويلات البنك الدولي، وهو بالمناسبة يشجع أن تكون لغة الصفقات العمومية في البلدان التي يمول فيها مشاريع هي اللغات الوطنية للبلدان المستفيدة، حرصا على الشفافية، ولذلك فقد تكفل بنفقات تعريب الوثائق النموذجية المستخدمة في إجراءات الصفقات العمومية في بلادنا. من بين ممولي المشاريع أيضا، يمكن أن نتحدث عن الصين، والتي يمكن القول بأنها تهتم بالعربية أكثر من الفرنسية. تبقى جهة التمويل الوحيدة التي تطلب استخدام اللغة الفرنسية هي الوكالة الفرنسية للتنمية والاتحاد الأوروبي، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن التمويلات القادمة من هذه الجهات لا تمثل إلا نسبة قليلة جدا من مجموع التمويلات، هذا فضلا عن كون المشاريع الممولة من طرفها لا تسعى لتحقيق أهداف تنموية فقط، بل إن لها أهدافا سياسية لا تخفى على أي متابع فطن، وهنا نغلق القوس القصير الذي فتحناه.

كنا نتوقع من معالي وزير الاقتصاد أن يقرأ الأحداث أعلاه قراءة موضوعية، وأن يدرك أن فرنسا ولغتها في تراجع، وأن يقرر بالتالي تعريب إجراءات الصفقات العمومية في بلادنا استجابة لمقتضيات الدستور أولا، وتلبية لرغبات أهم الممولين ثانيا، فإذا به بدلا من ذلك يستنتج من تراجع نفوذ فرنسا ولغتها، استنتاجا غريبا على طريقة الطفل الذي تحدثنا عن قصته في أول فقرة، مفاده أن اللغة العربية في تراجع، وأنه لا مجال لتعريب إجراءات الصفقات العمومية.

 

(3)

قبل أقل من 24 ساعة من اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية، وتحديدا في يوم 23 فبراير 2022 ألغى معالي وزير الاقتصاد الحالي، وكان حينها وزيرا للطاقة والمعادن صفقة بتوريد المحروقات فازت بها شركة “أداكس”، وبأسعار مقبولة نسبيا، ليضطر بعد ثلاثة أسابيع فقط، وتحديدا في يوم 17 مارس 2022 أن يمنح نفس الصفقة لنفس الشركة، ولكن بزيادة 120 مليون دولار إضافية، أي ما يُقارب 45 مليار أوقية قديمة!!

قراءة معالي الوزير للأحداث التي سبقت حرب أوكرانيا بأربع وعشرين ساعة فقط هي التي جعلته يخرج باستنتاج مفاده أن الحرب لن تقع، وأن التموين بالمحروقات لن يشهد أي تقلبات، ويتخذ بالتالي قرارا سيئا وغير مدروس كلف خزينة الدولة 45 مليار أوقية قديمة في غمضة عين، وتسبب فيما بعد في أعلى زيادة في أسعار المحروقات السائلة في تاريخ البلد ( 115 أوقية قديمة بالنسبة للتر المازوت، و130 أوقية قديمة للتر البنزين، أي زيادة تقدر في مجملها بنسبة 30%).

وقراءة الوزير للأحداث المرتبطة بفرنسا ولغتها جعلته يخرج أيضا باستنتاج صادم وغير متوقع مفاده أن اللغة العربية في تراجع، وأنه لا مجال لتعريب إجراءات الصفقات العمومية، وهو ما سيترتب عليه احتفاظ الصفقات العمومية بلغة أجنبية، الشيء الذي سيجعل موريتانيا البلد الوحيد في هذا العالم الذي يمكن أن تطالع فيها إعلانا من وزارة سيادية توجد به عبارة صريحة تقول لا نقبل بالعروض المكتوبة بلغتنا الرسمية!

لقد دفعنا كلفة اقتصادية كبيرة، بل وكبيرة جدا، بسبب استنتاجات الوزير قبيل اشتعال الحرب في أوكرانيا، والتي تقول بأن الحرب لن تقع، ودفعنا كلفة معنوية أكبر بسبب استنتاجات الوزير التي تقول بتراجع اللغة العربية، وما يترتب على ذلك من عدم تعريبِ للغة الصفقات العمومية.

ليس لنا أمام هذا الواقع المؤلم، إلا أن ندعو الله أن يخفف عن الشعب الموريتاني أعباء استنتاجات وقرارات معالي الوزير.

حفظ الله موريتانيا..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى