التحاليل

توضيحات حول الأساس القانوني لتعميم وزارة المالية المتعلق بتنقيح ومراقبة كتلة الأجور

د محمد عمي قاضي محاضر في القانون العمومي للانشطة الاقتصادية جامعة انواكشوط                        طالعت مقالا يتناول الأساس القانوني لتعميم وزارة المالية المتعلق بتنقيح ومراقبة كتلة الأجور، وخاصة تأكيد الحضور الفعلي للقضاة من خلال وزارة المالية، معتبرا أنه لا يشكل مساساً بمبدإ الفصل بين السلطاتِ، والنظام الأساسي للقضاء.

ولقد نال إعجابي تمهيد صاحب المقال الذي ذكر فيه أن الهدف الأساسي منه، هو “إزالة اللبس عن اختلاف دلالات المبادئ القانونية باختلافِ الميادين والحقول”.

الشيء الذي جذبني لقراءته حتى أفهم الخلفية التأسيسية له.

وقد قرأت باهتمام المقال، مسترسلًا مع فقراته يحدوني يقين أن صاحبه، كإطار قانوني وفني مالي، لن يهمل التأكيد على ضرورة الإيفاء بمتطلبين هامين:

أولهما: الحرص على التأكد الفعلي لمردودية صرف الراتب، الذي يتعامل معه كوجه إنفاق مالي للدولة منوط به الحفاظ عليه والتأكد من صرفه في الوجه المقرر.

والثاني: انسجام ذلك مع ضمانات سير المؤسسات والأجهزة المختلفة للدولة، كل فيما يخصها بانضباط ومسؤولية، خاصة الأجسام الوظيفية، التي ميزها الدستور، وأفردت لنا قوانين نظامية خاصة، ضمانا لاستقلاليتها، وحفاظا على احترام فصلها من حيث الشكل الرقابي عن بعض الفئات الوظيفية التي لا تناط بها نفس المسؤوليات.

بيد أني واسترسالا مع المقال اصطدمت بمجموعة من المقدمات أو التأسيس القانوني في نظري الفاقد للوضوح أو التعليل، والذي أجمله في النقاط التالية:

أولا: فيما يتعلّق بالتأسيس الشكلي للتعميم:

ذكر المقال بأنّ التعميم مُوجهٌ حصرا إلى الوزراء ومسؤولي الهيئات العمومية. وذلك، يجدُ مُبرّره القانوني في أن رأس السلطة في الوزارة المُصدرة للتعميم، هو الوزير المُكلّف بالمالية،

وهو أمر صحيح، غير أن مبدأ استقلالية القضاء، حتم أن تكون مهمة الإشراف على التأكد من الحضور – حرصا على المال العام وصرفه في الوجه المقرر – من ناحية، وضمانا لاستقلال القضاء وفصلا بين السلطات – بيد جهة أخري – مرتبطة بالسلطة التنفيذية (وزارة العدل) هي المفتشية العامة للإدارة القضائية والسجون، عهد إليها بتولي تلك المهمة.

والهدف من ذلك أن يكون القاضي كمكلف بالقيام بأدوار الفصل بين الجميع بما فيها السلطات ذاتها، بمنأى عن مباشرة أي ضغط مباشر أو غير مباشر عليه، خصوصًا إذا تعلق الأمر، بإشهار ادعاء تغيبه وتعليق راتبه، من طرف آلية تدقيق عادية، خصوصًا مع غياب الدقة في بعض الحالات.

وبالتالي فمن حيث الشكل، لا قانونية مطلقا لإدراج التعميم لأسماء أعضاء من السلطة القضائية (القضاة) بهذا الشكل، وهو يتعارض مع المبدأين المشار إليهما أعلاه: التحقق من صرف الراتب في الوجه المقرر لتكليف جهة تنفيذية أخرى به من خلال قانون نظامي منفصل، من جهة، وخرقا لمبدأ الفصل بين السلطات الذي يجب وضعه في الاعتبار عند القيام بأي عمل يراد أن يكون منسجما مع دولة القانون من جهة أخرى.

ويبرز الخلط بين الأساس القانونيِ للتعميم أي المادة: 59 من القانون النظامي المتعلق بالمالية الموجه إلى المتدخلين في عمليات تنفيذ النفقات (الوزراء بما فيهم وزير العدل، ومسيري المؤسسات العمومية) والذي لا مشاحة فيه، والخلط مع آلية الاشراف على ذلك بالنسبة لبعض الأجسام الوظيفة كالقضاة مثلا، الذي يضبطهم نظام خاص للاعتبارات المبينة أعلاه، وهو ما عبر عنه رد السيد معالي وزير العدل بإحالة مَنْ مِنَ الموظفين يعنى بالتعميم، وتوضيح آلية التحقق فيما يخص (القضاة) بوصفهم جسما وظيفيا مستقلًا بنظام عضوي خاص،

ولا يعني ذلك تنزيه القضاة وترك الباب مفتوحًا لهم لأي تقصير، أو التفريط في المال العام، وإنما بالآلية القانونية التي ارتآها المشرع كضمانة لاستقلال السلطة القضائية.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن وزير العدل لحساسية مهامه يتمتع بما يسمي “القبعة المزدوجة” (double casquette) من كونه جهة الإشراف التنفيذية على السلطة القضائية، من ناحية، وحافظ الأختام المشرف على السياسة الجنائية والنيابة العامة (مع استشراف التعديلات الضامنة للاستقلالية) من ناحية أخرى.

وبالتالي مناط به آلية التحقق هذه احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات، وهو ما أبرزه بصفة جلية رد معالى وزير العدل.

وعلى ضوء ذلك فان إيراد القضاة للاعتبارات السابقة هو نوع من التدخل في تلك “القبعة” الخاصة، وإن كان التعميم مجرّد مراسلة إدارية بين جهتين إدارتين منتميتينِ إلى سلطة واحدة هي السلطة التنفيذية، إلا أنه في هذه النقطة مس بالسلطة القضائية.

وما دام بعض المعنيين بآلية التحقق هذه قضاة، فإن لنادي القضاة، أن يتدخل، إذ القضاة ضمن المخاطبين بفحوى التعميم، مع أن المخاطبة بـ(إلى:..) أبرز فيها حافظ الأختام ما يلزم من إيراد من يعنيهم ذلك من الموظفين العمومين، ومن إيراده مساسٌ بمبدأ الفصل بين السلطات.

فمراعاة الأشكال مهمة في النظم الديموقراطية والدول التي تكرس احترام القانون، وخاصة في تعميم إداري كهذا، ومع وجود آلية خاصة بالقضاة كفئة وظيفية خاصة تضمن التأكد من وجودهم الفعلي وضبط وشفافية تسيير كتلة رواتبهم وأجورهم، بصفة محترمة ودقيقة.

ثانيا: فيما يتعلّق بجهة الوصاية للتعميم:

تطرق المقال إلى أن القضاة يخضعون إلى ثلاثة أنواع من الوصاية منها ما سماه “الوصاية القضائية” موردا أنهم “بصفتهم لِسان التشريعِ الذي ينطق به، [ ] يخضعون للقانون فقط. (المادة 7 من النّظام الأساسي للقضاء)”.

ويجدر التوضيح أنها ليست رقابة بقدر ما هي ضمانة، وفى هذه النقطة بالذات إجابة واضحة على أن الشكل والآلية التي يجب توافرها للقيام بالتحقق ينبغي أن تلتزم بالقانون النظامي الضامن الوحيد للاستقلالية.

وفيما يتعلق بالإشراف الإداري أورد أنهم “بصفتهم موظفين عموميين، يخضعون لسلطة وزير العدل (المادة 6 من النظام الأساسي للقضاء)” وهذا الإطلاق يجب الوقوف عنده لتبيان أن القاضي لا يمكن وصفه بأنه “موظف عمومي” أولا لكونه مكلفا بالقيام بمهام سلطة مستقلة.

ولعل ما يثير اللبس في هذه النقطة ربما هو تعدد الاختصاص لوزير العدل الذي بيناه أعلاه والذي أبرزه النظام الأساسي للقضاء، كرئيس للنيابة العامة، وجهة إشراف عامة مرفقية.

أما من الناحية المالية، وإن كان صاحب المقال فضل وصف القضاة بـ”أعباء مالية” بدل “أوجه صرف أو إنفاق” الذي درج عليه في إطار المالية العامة، فإنه يرجعنا إلى التأكيد أن مراقبة وجه الصرف هذا ضبط لها المشرع ذلك الإطار الذي ذكرنا آنفا ضمانا للهدفين المذكورين أي التأكد من الانضباط وسلامة الصرف المالي، واحترام مبدأ فصل السلطات.

إذاً، لا مناكرة في خضوع جميع بنود صرف الميزانية لوصاية الوزير بالمُكلّف بالمالية، لكن آلية التدقيق مقيدة في نقطة تدقيق حضور القضاة وتعليق رواتبهم بما ذكرناه آنفا.

وخلاصة القول تبعا لما ذكرنا أعلاه:

1. أنه لا تعارض بين التدقيق في وجه الصرف المقرر، التي هي اختصاص وزير المالية، كجهة تنفيذية، وإعطائها لجهة تنفيذية أخرى عهدها المشرع بتولي تلك المهمة، احتراما لسير السلطات الواجب فيها مراعاة الاستقلالية، إذ إن السلطة التنفيذية ككتلة واحدة ستجني نفس النتيجة،

2. أن التلويح بتعليق راتب أي عضو من السلطتين المستقلتين التشريعية والقضائية، دون الرجوع إلى النظام العضوي لكلا السلطتين مس من استقلالهما من طرف السلطة التنفيذية، وهو ما حملته اللائحة المرتبطة بالتعميم بالنسبة للقضاة.

زر الذهاب إلى الأعلى