قلم: الراشد، وإلهامُه ورسوخ قدمه في فقه الدعوة..
أولا: حول منهج النظر وتدافع الأفكار:
كان دافعى للإقبال على كتب المربي والكاتب الفصيح والفقيه: محمد أحمد الراشد -رحمة الله عليه- أننى أرى في أعمالِه العلمية ما أُريدُ، وأقرأُ ما أُحِبُّ.
ويُعجبنى في الرجل أنما يَجيشُ به صدره يرسمه قلمه الرصين وتقذفه أفكاره الجميلة الواعية.
يعود اهتمامى به وقراءاتى له إلى أكثر من عقدين، عندما سيطرت مؤلفاته على أفكارى ومشاعرى في معارض الكتب التي كنا نتعاهدها ونقتنى منها في الجزائر الحبيبة، بعدها لا أَذْكرُ أن مكتبتى خَلَت من: المُنطلق، والرقائق، والعوائق، وصناعة الحياة، والمسار.
امتهن: عبد المنعم صالح العلي العزي المكنى بأبى عمار، والمعروف حَرَكِيا بمحمد أحمد الراشد، الكتابةَ، التي هي فى عرف الأدباء: إنشاء النثر، كما يفيد: الجرجاني في كتاب التعريفات، ولا أذكُرُ على تواضع قراءاتى أحدا من الأعلام المعاصرين المنتسبين لحقل فقه الدعوة، هَضَم تراث (حركة الإخوان المسلمون الأم)، واستوعب (مجموعة رسائل الأستاذ الإمام حسن البنا)، و (مذكرات الدعوة والداعية) له، أفضل من: الراشد، فقد كان بحق أبرز الناشرين لهذا الفكر، على أنه: أضاف وعَدّلَ واجتهد، ولا يُعَدُّ من كُتّاب الإخوان (المناقبيين) بتعبير شيخنا العلامة الفقيه: يوسف القرضاوي فحسب، الذين يعتبرون تاريخ الحركة الإسلامية كله مناقب وأمجاد، كالشيخ: سعيد حوى، وأمثاله، وإنما يحوز: الراشد من أدوات التوثيق والتحقيق والنقد والموازنة والتحليل والتنزيل ما يجعله أدق معالجة وأعمق نظرا، ويسنده في ذلك ريشة الناقد وغيرة الداعية.
نشأ: محمد أحمد الراشد نشأة دينية وارتقى بأريج تربيته الإيمانية وعزلته لبناء نفسه بالخلوات ومجالسة الكتب والسياحة في عقول أهل العلم.
ارتقى الرجل بفضل التجارب والدربة إلى مرتبة عالية من العلم والإجادة، وخدَم الإسلام بقلمه، موليا قضايا النهوض والتربية ونصرة القضية الفلسطينية كبير اهتمام.
ثانيا: تأملات في فقه الدعوة عنده
أزعُمُ أن: الراشد كان أحد صناع الإعلام الإسلامي، واستمات في سبيل ذلك، وتميز قلمه بالرصانة، وصوته بالجمال والرحابة والسعة، وصنع هذا الأَلَق عقودا متتالية، واجتذبت كُتُبُه وإنتاجه الغزير النفوس وصاغت الأفكار، فَصُنِّف كاتبا قديرا وصحافيا مرموقا.
وقد كان الإمام العلامة الدكتور : يوسف القرضاوي، قدوة فقيها مقاصديا ومؤلِّفا ضخما، وكان الدكتور: مصطفى السباعي أستاذا جامعيا متألقا وباحثا رصينا، وأديبا متفوقا مترفقا، وكان الأستاذان: عمر عبيد حسنه، وفهمي هويدي صحافيان عظيمان، وكاتبان موسوعيان، وقد أحسنا صياغة العقل الإسلامي في أكثر من مجال.
إلا أن: محمد أحمد الراشد جمع ببن الكتابة والصحافة، وأضاف إلى ذلك، عبقرية المفكر وصياغة الحَرَكِي، وألمعية الفقيه، ومسحة الزاهد المربي.
لقد أحرز: الراشد، نجاحا مبينا في فقه الدعوة، فتعلق به رواد الصحوة، لِما لَه من المواهب والاقتدار في حسن التأليف وتميز التنسيق وغزارة العطاء، مما أشبع ظمأ القارئ وأغناه، لتؤهله هذه المسيرة العلمية إلى أن يكون أحد أبرز أساطين العلم والفكر، والقلائل الذين أوْلَوا الدين والشرع نصيب الأسد من أعمالهم العلمية، وأدرَكَ الفضائل بحسن أَفعاله لأبناء الدعوة، فكانوا يتسابقون إلى أدبه ويقطفون من فراسته وتثبته وبعد نظره، وتسحرهم فصاحته وما يُبين عنه من خلاصات، ويُظهِره من استنباطات ومقارنات، متخلصا من تنافر الحروف واللفظ الغريب، وحاز ملَكة لا تضاهى بالتعبير عن المقصود بأسلوب ناعم راسخ القدم مهيب القلم، وترك -رحمة الله عليه- آثارا خالِدة في أمته، وتجاوز إلهامُه إلى غيره، ممثلا القدوة للأجيال في النصيحة والعلم والبذل والجِد.
ثالثا: قراءة في نقده ومراجعاته
ذكر: القاضي عياض، أنه سمع القاضي أبي علي الصدفي، يقول عن الإمام أبي محمد التميمي ببغداد مقولته المشهورة:”مالكم تأخذون العلم عنا وتستفيدون منا ثم لا تترحمون علينا”، وهذا مما يوجب علينا أن نوفي للراحل الحق، ومن الترحم عليه إبراز خصاله وذَوْدِه وبلائه، وإسناد الناس لآثاره بالقراءة والدعاء، ثم استثمار أفكاره في استقامة الأمور، ولقد أوْْلى ببيانه تحقيق الفكرة، وديمومة العمل قبل الكلام، والهدوء والسكون وتحديد الوسائل والغايات اهتماما زائدا، ويمتلك الرجل قدرة هائلة على نحت العبارات، بوصفه أحد معادن الفصاحة، عندما ينادى ببناء الصحوة والتأسي الصامت والتربية والسَّيْر المنضبط، محذرا من اختلاف الأقران، داعيا إلى تربية الخلوات وهدوء النشأة والتروي في النزول إلى ميدان المنافسة، ويركز على القيادة باعتبارها فنََّا قَلّ من يُجيده، وَأنّ على المتصدر لها تدبر قوله تعالى:(إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم)، مع وفرة الهيبة وعامل السِّنِّ وغزارة الإنتاج الفكري وحيازة التجربة المعتبرة.
ويتوقف: محمد أحمد الراشد مع النضال وأهمية الاستئناس بتجارب الآخرين، ويراعى في تنزيله للنظريات التي يَسْرُد تطور الحياة السياسية والفكرية في كل بلد على حدة، ويؤكد على التأسي بآثار الصالحين والمواظبة على الذكر، محذرا من استعجال الظهور قبل تمام النشأة، وأخَذَ الإعداد التربوي والنضج السياسي والبناء العقائدي حيزا لا بأس به من إنتاجه، ويلمح الرجل بذور الخير فيبذلها لخدمة الدعوة وأهلها والمنافحين عنها، وكان ينشر ويكتب بأدب وروية ورفق، ونظرا لطول عيش الرجل داخل الحركة فقد جَدّد وابتكر، وقَعّد لمعادلة العلم والمال والكفاءة والتربية وتجارب العمل الإسلامي وفقه الدعوة وأصولها، ويُمَيّزُه تحاشيه الحِدّة في خصامه وفي سلامه، فكان يَصِل ولا يقطع، ولا يضيق ذرعا بمخالف كائنا من كان، ويتفطن للحكمة ويقتنصها حتى من “لينين” والبلاشفة والحزب الماركسي الشيوعي، وتَقدَّم على غيره في الجرأة وتكسير بعض التابوهات في أدبيات الحالة الإسلامية، بتعبيره عن أهمية النسب الشريف مع العمل الصالح، ويُنوه بالمنتمين للعائلات العريقة وما يُتوسم فيهم من فطرة، مُنظّرا لمعالي الأمور “من شجاعة وكرم ووفاء وعدم غدر وصدق وكراهية الطعن من الخلف”، وحاجة الدعوة إلى هؤلاء محذرا من “الغوغاء والنكرات والدخلاء”، ونَظّر “للحب العميق والارتباط الوثيق والأخوة الصادقة والتعاون المكين”، وركز على النفوس والقلوب، وجعل من قوله تعالى:(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، منطلقا للنصر والتمكين، وصالَ: الراشد وجالَ في قضايا العمل الإسلامي بجوانبه المختلفة ومشكلاته الكثيرة والمتشعبة، وكان اهتمامه بذلك واستشعاره المسؤولية في المناصحة أكثر من غيره في نظرى.
ومهما استرسل في الكتابة -حتى لا أقول أَسْهَبَ- فسَتستحسنُ لفظه، والزِّيادةُ من الخير خيرُُ، كما يرى: إياس بن معاوية.
أخلُصُ إلى أننى لا أتنكر للأقلام التي ساقتنى بحماسة إلى الخير والنفع والصدق، ولا أجحدُ فضل بعض المدارس السياسية علَيّ في رسم الطريق وتقوية العزم ومَضاءِ التكوين، على ما انْفَعَلْتُ به في نشأتى وفُطِرتُ عليه في بيئتى وحاضنتى الأُولى من رَصيدِِ أعْتَزُّ به، وأحمَدُ الله على كل حال، مُلتمِسا الوصول إلى (الكمال) في الاستقلال العلمي والنضج السياسي.
الكاتب د عبد المالك ولد أن ولد حني