الدراسات

أميركا بين مزاحمة التنين الصيني والدب الروسي في أفريقيا

اكتسبت الجولة التي قام بها وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن مؤخرا لـ3 دول أفريقية هي: جيبوتي وكينيا ورواندا أهمية خاصة، كونها أول جولة يقوم بها وزير دفاع أميركي أسود إلى القارة السمراء، كما أنها أول مرة يزور فيها وزير دفاع أميركي أنغولا، وهي المرة الأولى أيضا التي يزور فيها رئيس البنتاغون كينيا منذ 1975.

وهنا يثور السؤال التالي: لماذا هذه الدول الثلاث تحديدا؟ وما أهداف الزيارة؟ وهل تتماشى مع الإستراتيجية الأميركية الجديدة صوب القارة التي أعلنها وزير الخارجية أنتوني بلينكن قبل نحو عام؟

جيبوتي مركز التنافس الدولي

اكتسبت زيارة أوستن إلى جيبوتي أهميتها من عدة اعتبارات؛ منها موقعها الإستراتيجي المهم في القرن الأفريقي، فضلا عن إطلالتها على مضيق باب المندب الذي يعد بمثابة الرئة الجنوبية للبحر الأحمر وقناة السويس، ومجاورتها لكل من إثيوبيا الحليف الإستراتيجي لواشنطن في المنطقة، والصومال الذي يخوض حربا مستمرة منذ سنوات ضد حركة الشباب المجاهدين التي تصفها واشنطن بالإرهابية. لذلك، لم يكن مستغربا أن يلتقي أوستن بالرئيس الصومالي في جيبوتي، ويشيد بأداء حكومته في مواجهة حركة الشباب في الآونة الأخيرة، والذي فاق أداءها خلال السنوات الخمس الماضية مجتمعة.

لا تقتصر أهمية جيبوتي على ذلك فحسب، بل هي مهمة من زاوية التنافس الدولي المحموم في القارة الأفريقية، فهي إحدى المستعمرات الفرنسية السابقة في القارة، ويوجد فيها أكبر قاعدة عسكرية فرنسية، وكذلك قاعدة لومونييه الأميركية الوحيدة في القارة، كما يوجد فيها أول قاعدة صينية تقوم بكين بتدشينها خارج الحدود، ناهيك عن قواعد أخرى يابانية وألمانية أقل حجما. جيبوتي -إذن- محط أنظار جميع الدول الكبرى التقليدية والصاعدة. لذا، فإن أوستن ركز خلال زيارته على قلق بلاده من الوُجود الصيني قرب قاعدة ليمونييه، وضرورة إيجاد جيبوتي آلية تفاهم مشترك لتأمين قوات بلاده من أية احتكاكات قد تحدث مع الصينيين الموجودين على مسافة قريبة من القاعدة الأميركية.

كينيا ومحاربة الإرهاب

أما ثاني المحطات في جولة أوستن الأفريقية، فكانت كينيا المستعمرة البريطانية السابقة، وذات الموقع الإستراتيجي المهم أيضا على المحيط الهندي، والتي تعد إحدى ركائز الولايات المتحدة في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي بمعناه الواسع، لا سيما في مواجهة التنظيمات المسلحة “التقليدية” مثل تنظيم القاعدة، و”الحديثة” مثل حركة الشباب، وكذلك مواجهة عمليات القرصنة البحرية، حيث يوجد فيها قاعدة تدريب عسكرية صغيرة في خليج ماندا بالقرب من الحدود الصومالية تضم 600 جندي أميركي من القوات الجوية والمارينز، مهمتهم تدريب القوات الشريكة لواشنطن في المنطقة لمكافحة الإرهاب في شرق أفريقيا، مما جعل الوجود الأميركي محل استهداف لهذه الجماعات. حدث هذا عام 1998 عندما تعرضت السفارة الأميركية في نيروبي لهجوم نفذه تنظيم القاعدة، كما تعرضت قاعدة ماندا ذاتها لهجوم عام 2020 أدى إلى مقتل 3 أمريكيين.

وقد اكتسبت زيارة أوستن إلى كينيا -التي لم يزرها وزير دفاع أميركي منذ ما يقارب 5 عقود- أهمية خاصة من 3 زوايا أساسية:

  • الأولى تعزيز التعاون المشترك في مجال مكافحة أنشطة حركة الشباب، في الصومال وفي المنطقة عموما، خاصة بعد انتهاء المهمة الانتقالية لقوات الاتحاد الأفريقي العاملة في الصومال، وبالتالي ضرورة قيام الصومال ودول الجوار بعملية المواجهة في ظل تزايد عمليات الحركة في الآونة الأخيرة. وربما يفسر هذا أسباب لقاء أوستن -دون ترتيب مسبق-  مع الرئيس الصومالي.
  • وثانيها قطع الطريق على الصين، بعدما تردد في فبراير/شباط الماضي بأن نيروبي قد تلجأ إلى بكين لإقامة مدرج طويل بقيمة 50 مليون دولار لاستقبال الطائرات النفاثة في مطار قاعدة ماندا، بعد رفض إدارة بايدن دفع هذه التكاليف.
  • أما السبب الثالث، فيرجع إلى الدور الذي ستلعبه كينيا عبر القوات الدولية المزمع انتشارها في هاييتي لمواجهة حرب العصابات والفوضى هناك، لا سيما بعد قيام واشنطن بإدراج هاييتي كأول دولة في قائمة الدول التي ستعمل فيها على إيقاف الصراع وتعزيز الاستقرار ضمن إستراتيجيتها للسنوات العشر القادمة لتقليل عمليات نزوح اللاجئين في هذه الدولة صوب واشنطن. لذا كان مبررا أن يقوم أوستن بتوقيع اتفاقية أمنية مع نيروبي مدتها 5 سنوات لمكافحة الإرهاب، والإعلان عن ضخ 100 مليون دولار للقوات الكينية المشاركة ضمن القوات الدولية في هايتي.

أنغولا ومحاربة إرث الماركسية

أما المحطة الثالثة والأخيرة، فكانت لأنغولا النفطية، المستعمرة السابقة للبرتغال، والتي تتمتع أيضا بموقع إستراتيجي على المحيط الأطلسي في الجنوب الأفريقي. ولم يزر أنغولا أي وزير دفاع أميركي منذ استقلالها عام 1975، إذ يبدو أن إدارة بايدن حريصة على سحب أنغولا ذات التوجهات الماركسية السابقة من أي نفوذ روسي أو حتى صيني من خلال سحبها من مبادرة الحزام والطريق. فأنغولا، ثالث أكبر منتج للنفط في أفريقيا، تمتعت بعلاقات وطيدة مع الاتحاد السوفيتي السابق، إذ دعمت موسكو الرئيس السابق دوس سانتوس خلال الحرب الأهلية التي شهدتها البلاد بين عامي 1975 و 2002، في مواجهة حركة يونيتا المعارضة المدعومة أميركيا بقيادة جوناس سافيمبي.

كما تتمتع الدولة بعلاقات وطيدة مع بكين، إذ تعد من أكبر 5 موردين للنفط إلى العملاق الآسيوي، كما تعد أكبر شريك تجاري له في القارة السمراء بحجم تجارة تجاوز 120 مليار دولار منذ عام 2010، وتلعب الشركات الصينية (400 شركة) دورا مهما في مجالات عدة في لواندا، لا سيما في مجال البنية التحتية، إذ غالبا ما يحدث نوع من المبادلة التجارية بين الاستثمار الصيني في هذا القطاع مقابل النفط الأنغولي. لذلك لا غرابة في أن تقوم واشنطن بإيجاد موطئ قدم لها في لواندا باستثمارات تقدر بنحو 250 مليون دولار في مشروع ممر لوبيتو الأطلسي للسكك الحديدية الذي يربط أنغولا بكل من مناجم الكوبالت في الكونغو الديمقراطية وحزام النحاس في زامبيا.

في النهاية يمكن ملاحظة أمرين:

الزيارة جزء من إستراتيجية جديدة

أن الزيارة تتماشى مع الإستراتيجية الأميركية الجديدة صوب القارة، التي أعلنها بلينكن العام الماضي، والتي ركز فيها على ضرورة مواجهة كل من الأنشطة الصينية “الضارة” في أفريقيا، وكذلك المعلومات “المضللة” الروسية، والتي دفعت عديدا من دول القارة إلى تصديق الرواية الروسية في تبرير حربها على أوكرانيا، واتخاذ بعض هذه الدول موقف عدم الانحياز في الأمم المتحدة عند طرح الموضوع للنقاش.

من هنا يمكن فهم أسباب تبني واشنطن مؤخرا نفس النهج الصيني للاستثمار في مجال البنية التحتية في أفريقيا، على اعتبار أنه يسهم في زيادة شعبيتها لدى الشعوب الأفريقية عبر تقديم خدمات ملموسة لها بدل السياسات التقليدية السابقة القائمة على تقديم مساعدات أو قروض للحكومات، قد لا ترى طريقها صوب هذه الشعوب؛ بسبب انتشار الفساد بصورة كبيرة. لذا، لا غرابة في أن تعلن واشنطن عن مبادرة الشراكة العالمية في مجال الاستثمار والبنية التحتية، وأن تقوم منذ عام 2021 بإبرام أكثر من 800 صفقة تجارية واستثمارية مع 47 دولة أفريقية من إجمالي 54 دولة بقيمة إجمالية تقدر بأكثر من 18 مليار دولار.

من ناحية أخرى، يمكن فهم أسباب تعمد أوستن الإساءة المباشرة لروسيا، ومخاطبة عاطفة الشعوب الأفريقية عبر اتهامه موسكو، ومن داخل أنغولا، بدعمها “أنظمة مستبدة، تقوم بتزويدهم بالأسلحة الرخيصة”، فضلا عن قوات المرتزقة “فاغنر”، وفي المقابل تمنع شعوب القارة من الحصول على القمح الأوكراني.

المصلحة الأميركية في تقييم الانقلابات

الرفض الأميركي “الضمني” للانقلابات، عند إشارة أوستن لوجود “طغاة في عموم القارة يقوضون الانتخابات، ويمنعون الانتقال السلمي للسلطة”. هذا الرفض بهذه الصورة ربما يرجع إلى أن معيار المصلحة هو الحاكم لتعامل واشنطن مع قادة الانقلابات في القارة، إذ وجدناها ترفض وصف ما حدث في النيجر بالانقلاب، وما قد يترتب على ذلك من ضرورة وقف المساعدات لقادته بموجب القوانين الأميركية إلى حين عودة الديمقراطية ممثلة في الرئيس بازوم، بل يتردد أن واشنطن كانت وراء تحريك الانقلابين ضده وضد فرنسا الداعمة له، بسبب رفض باريس السير في ركابها في مواجهة الصين، أو الاصطفاف معها في الحرب الروسية الأوكرانية.

لذا لا غرابة في استمرار الوجود الأميركي في نيامي، في الوقت الذي طالب فيه المجلس العسكري هناك برحيل القوات الفرنسية. هذا الموقف الأميركي قد يفسر أيضا أسباب عدم إشارة أوستن في حديثه صراحة لانقلابي النيجر والغابون وما سبقهما من انقلابات في مالي وغينيا وبوركينا فاسو.

د. بدر حسن شافعي / خبير في الشؤون الأفريقية

المصدر: موقع الجزيرة نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى