الرحالة مونكًو بارك عند أولاد امبارك/ بقلم سيد محمد ولد عبد الوهاب
كان مرور المستكشف و المخابر الابريطاني مونكًو بارىك (نهاية شهر شعبان 1210 هجري، مارس حتي يونيو 1796م) بالأراضي التابعة لسلطنة أهل بهدل ولد محمد ازناكًي ( أولاد امبارك) أيام الأمير أعل ولد اعمر ولد بهدل اضطراريا نظرًا لأجواء اقتراب حرب شرسة بين ملك كارتا (ديزي كوريباري) و ملك إقليم سيكًو مانسونكً ، البمباريين، بسبب خلاف بسيط حول استرجاع بعض المواشي المستلبة و نظرًا للتنافس الدائم حول الموارد و النفوذ بين الجارتين.
هكذا شائت الأقدار أن تخرج للوجود هذه القصة التي تحملنا إلي الفضاء الملحمي لسلطنة أهل بهدل من خلال نظرة أوربية مسيحية تشكل استطلاعًا عرضيًا علي سكان الساحل و الصحراء و وثائقيًا مكتوبًا عن إحدي المجموعات الحسانية التي نسجت جزءا هامًا من ثقافة البظان.
كما أنها تجسد صنفًا من البرتوكولات الثقافية و التلاقي الحضاري المعقد بين عوالم تفصلها غياهب الاختلاف و تراكمات الحقد المؤسس و لًا تفاهم العميق.
و نظرًا لندرة التدوين الوقائعي عن تلك الفترة و ” انشغال اصحابها بصناعة التاريخ بدل كتابته ” كما يشير اليه د.محمد بن بواعليبه الغراب في تقديم ترجمته لهذه الرحلة (دار النشر جسور ، 2014 ) فإن تفاصيل القصة تكتسي أهميةً نظرًا لبعدها الرمزي و طابعها الاستطلاعي الظريف مثل حكاية ولد كيجه النصراني Renee Caillée مع لبراكنه و كاميل دولس Camille Douls مع أهل الساحل .
تطرق الطبيب المغامر لتفاصيل هذه الحلقة من مشواره في الأجزاء (9 ، 10 ، 11 ، 12 و 13) من كتابه الشهير ” Travels into the interior of Africa “ الذي نعتمد نسخته الورقية Wordsworth Editions 2002 و الصوتية (Audio Book read by Lynda Marie Neilson علي اليوتوب) نظرًا لأهميته كشهادة نادرة علي إحداثيات فترة من التاريخ الثقافي و السياسي للمجتمع الموريتاني .
صعوبة الحصول علي دليل و ضمانات لقطع الطريق في خضم هذا الجو المتوتر أدت المغامر م.بارك الي تغيير مساره نحو جهة الشمال (منطقة جارا و ترنكًومبو التابعة لأولاد امبارك) بعد استشارة ديزي كوريبارلي (ملك كارتا في عاصمته كامو) الذي نصحه أولاً بانتظار نهاية الحرب المحدقة مع ملك سيكًو و الرجوع إلي مملكة كاسون المجاورة تحاشيًا للتعرض لمسار جيش مانسونكً الزاحف من الشرق في اتجاه أقاليم كارتا أو محاولة الطريق الشمالي ” المحفوف بالمخاطر” في حالة الإصرار علي مواصلة الرحلة.
و عاصرت ذلك التوتر أزمة أخري بين مماليك كاصون ( الملك دمبا سيكًو الفلاني) و كاجاكًا ( الملك باتشيري السوننكي).
يشير د.ولد بواعليبه ، في مقدمة ترجمته ، علي أن منطقة الكينكًي كانت تابعة لسلالات جاورات Diawara عدة قرون قبل أن يبسط أولاد امبارك سيطرتهم عليها حوالي ثلاثينات القرن الثامن عشر ميلادي( 1735 م ) و علي مصادر استخراج الذهب في إقليم بيرو (ولاته) عدة عقود بعد تأسيس إمارتهم المكونة من مجموعات أهل هنون لعبيدي (اشياخه العام )في الحوظ الشرقي و مشيخات أهل بسيف ولد محمد ازناكًي ( فونتي) في الحوظ الغربي و أولاد لغويزي ولد الفحفاح ( الكًاشوش ) في لعصابه و شرقًا سلطنة أهل بهدل في منطقة كينكًي و باخونو داخل مالي حاليا إثر انتصارهم علي أولاد بوفايده و حلفائهم في وقعة مدلله المفصلية 1711 م كما يروي تفاصيله الأستاذ يوسف نجاح ، رحمه الله ، في ” المتدارك من أعلام أولاد امبارك” استنادًا إلي الكتابات التاريخية (خاصةً الحسوة البيسانية للمؤرخ القاضي صالح بن عبد الوهاب الناصري الولاتي) و الشهادات الشفهية المتاحة عن تلك الفترة .
لم تحمل القصص المتداولة محليًا أو الأشوار الزمنية التي بلغتنا أصداءً لرحلة هذا الأوروبي رغم مكوثه شهورًا بين خيام أسكرة أهل بهدل في أوج ابداع المقامات الموسيقية ربما لاندثار الكثير من الروايات الشفهية و جسامة الأحداث التي شهدها القرن الموالي و الذي تغيرت خلاله خرائط و معطيات في المنطقة.
كما أنه لم يسهب في ذكر الجلسات الفنية في المخيم الأميري عدا إشارته إلي إحدي المناسبات الاجتماعية و تقاليد الأعراس البدوية و أشوارها الشعبية (ص.124) رغم ملاحظاته عن مواكب الفنانين المرافقين للملوك الأفارقة الذين زارهم.
و نظرًا لندرة الاستطلاعات الخارجية المكتوبة عن تلك الحقبة ، ارتأينا التوقف عند بعض التفاصيل المعبرة أو المثيرة لهذا الريبورتاج الفريد رغم التحفظ علي مواقف الرحالة المتأثر بالعقلية المركزية المسيحية الأوروبية و غياب رواية معاكسة ( من جهة أولاد امبارك) للمقارنة و التدقيق و إجراءا التقاطع الحدثي.
البداية :
عند وصوله لمدينة جارا ( عاصمة إمارات جاوارات سابقًا و التابعة لسلطنة أهل بهدل آنذاك) أرسل الرحالة الاسكتلندي هدية للأمير اعل ولد أعمر ولد بهدل متمثلة في خمس قطع قماش ملابس قطنية زرقاء ، اشتراها من عند وسيط و بائع رقيق أقام عنده ( اسمه ديمن جوما) ، مع طلب الإذن بالمرور بالأراضي التابعة للسلطنة في اتجاه سيكًو و مسيل نهر النيجر، هدف رحلته ، كما هي العادة مع أغلب ملوك و أمراء المنطقة الذين كانو يتقاضون ضرائب مرور علي العابرين لأراضيهم.
بعد 14 يومًا جاء رد الأمير أعل إيجابيًا بإرسال دليل يقوده مع رفاقه ( دمبا خادمه الوفي و جونسون الدليل الأول و التاجر كونتي مامادي و رفاقهم) من جارا إلي قرية ترونكًومبو ليواصل بعد ذلك مشواره شرقًا ( ص.104 ).
بعد قطع مسافة معتبرة في اتجاه سيكًو ، مرورا بمدن كيرا و سامبكا و دنكًالي و سامامينكوس و دنكًالي و دالي (التي تعرض فيها لبعض النهب و الشتائم من طرف السكان المحليين الكارهين للنصاري) و دينا ( و كلها مدن تابعة للسلطنة ) و سامي تفاجأ بارك بمجيء عدد من فرسان أولاد امبارك لإقتياده إلي حلة الأمير في بانعوم في اتجاه معاكس بعدما رأي اقتراب حلمه برأية خرير مياه النيجر و هو يستمتع ليلًا باحتفالات شعبية في سامي (ضواحي مدينة دينا Deena) ، مسافة يومين من حدود بامبارا ، مرتاحًا حينئذ لشعوره باجتياز منطقة ” الخطر البظاني the moorish danger” يوم 6 مارس 1996م ( ص.107).
و نظرًا للفزع البين و الاحباط الشديد الذي أصاب المسافر الحالم عكف هؤلاء الفرسان علي اطمئنانه أن الأمر مجرد رغبة من زوجة الأمير ، “الملكةفاطمه” كما سماها بارك في مؤلفه ، في رؤية هذا الرجل “النصراني الأبيض ” الذي لم تر قط نوعه رغم سماعها بحكايات غريبة عن هؤلاء القوم؛ و بعد ذلك سيرخون سبيله و ربما يعطيه الأمير هدية معتبرة ليواصل طريقه بعد ذلك.
و زوجة الأمير اعل المعنية هي فاطمة بنت أحمد بن امحمد بن بكار بن هنون لعبيدي (كما بينه ذ.يوسف نجاح في الفصل السادس من كتابه عن ” المتدارك من أسماء النساء لمباركيات ” ، ص. 141 ) التي طلب ” الأسير الأوربي ” وساطتها من أجل إخلاء سبيله و استنجد بها لما ضاقت به سبل الخروج من ورطته الجغرافية الاستخباراتية الجريئة و أشاد بعطفها عليه كمسكين غريب أوطان علي حافة الضياع الجسمي و المعنوي.
من هنا بدأت في الواقع قصة م.بارك مع أولاد امبارك و لقاءه مع مجتمع البظان الذي حمل خياله ، علي غرار أغلب المغامرين الأوروبيين آنذاك ، الكثير من الصور المخيفة و الأوصاف الشنيعة و القصص المرعبة و المآخذ الجاهزة عن ملثمي الصحراء رغم إطلاعه علي كتاب حسن الوزان (ليون الافريقي ، وصف افريقيا) ؛ و ذلك موضوع قد نتطرق له في تحليل آخر ان شاء الله.
كما أن كابوس وفات زميله ( دانيال هيوكًتون 1791م مبعوث الرابطة الافريقية البريطانية الذي سبقه ) في ظروف غامضة ، قرب بئر ” تارا ” (شمال جارا) صحبة مجهولين تعامل معهم ليوصلوه الي تيشيت ( ولم يكن لقادة أولاد امبارك علاقة بمصيره خلافًا لما كتبه يوسف نجاح في المتدارك….) ، أملاً في سبيل يقود إلي تومبوكتو ، ظل يخيم علي مراحل رحلته الخطيرة.
و إضافة للقيمة الرمزية لتلبية رغبة ” أعين” الأميرة فاطمه يبقي سؤال محوري حول البعد الأمني و الإستراتيجي لتحفظ أولاد امبارك و سلطانهم علي مرور هذا الزائر الغريب ، مواطن الملك جورج الثالث ( ملك ابريطانيا من 1760 حتي حوالي 1810 ) الذي تحوم فوق رأسه شبهات التجسس في غضون تصاعد التبادل عبر الأطلسي و تنامي الأطماع الأوربية في المنطقةً بحثًا عن العاج و الذهب و الرقيق و الهيمنة الإستراتيجية.
الأمير أعل ولد اعمر ولد بهدل ، الذي وصفه بارك بالرجل العربي المسن راكب الحصان الأبيض ذو الذنب الأحمر و بالديكتاتور الهمجي ، هو ثالث أمراء سلطنة أهل بهدل ( الملقب أعل العافية و كذلك أعلي بوسروال طويل ) و امتد حكمه قرابة أربعين سنة من 1757 حتي 1798م لم تشهد سوي معركتين (وقعة بانعوم و معركة بير أرطان ) رغم انتشار الحروب آنذاك و توفره علي جيش يضم آلاف الفرسان المسلحين .و كان (حسب العالم و المؤرخ صالح بن عبد الوهاب الناصري الولاتي ) “أرفع ملوكهم ذكرًا و أنفعهم للمسلمين طرًا و أطولهم في الملك مدةً و أكثرهم عددًا و عدةً ” ( الحسوة البيسانية في علم الأنساب الحسانية ، ص.190 ، تحقيق د. حماه الله السالم).
و قد توصل إلي الحكم اثر وفاة والده أعمر ولد بهدل بعد خلاف مع عمه اعل الشيخ ( أمنج اظحي ، الذي مدحه سدوم ولد انجرتو في روائعه) دام سبع سنوات ، و الذي هاجر ( أو نفي) إلي أرض ماصه (بلاد البامبارا) حيث توفي هناك.
و من بين إخوته بسيف الكبش و هنون أديكه و عثمان الكًصاص و ابيبكر و أعمر الجد إضافة لأخ من أمه يسمي هنون ( ترجمة د . بواعليبه ، ص.30) و ابنائه أعمر ( العيمار الذي خلفه) و امحيمد و أحمد و أبيبكر.
وهو جد أمراء أهل بهدل ( خطر ، هنون ، اعل و محمد آماش ) ابناء اعمر المشهورين بمقام الكرس و اشواره الشهيرة : ولد اعمر ولد اعل لا دور في دين ، ولد اعمر ولد أعل ماريت ألي كيفو و ولد اعمر ولد أعل دمولي يلخلاكً…
الطريق إلي بانعوم :
لم يكن أمام الرحالة الغريب إلا الرضوخ طوعًا و مصاحبة هؤلاء الفرسان رجوعًا إلي جارا مرورًا بقري كان سكانها يتجمهرون حوله استغرابًا لبياض جلده و تصميم ملابسه و طبيعة شعره الأحمر و لون عينيه الزرقاوتين و شكل قبعته و حصانه.
الوصول الي الحي الأميري:
وصول الزائر الغريب أحدث حالة استنفار شعبي في مخيم بانعوم (يوم 12 مارس 1996م ) المتمثل في “عدد كبير من الخيام السوداء الرثة المتناثرة فوق سهل شاسع تحوم حولها قطعان المواشي من إبل و بقر و أغنام” (حسب وصفه، ص. 111) : الجميع يتهافتون لرؤيته ، البعض يتفحص سباكة جلده و طبيعة شعره المنساب و آخرون أزرار ثيابه و منهم من رمي دلاءه قرب البئر ليواكب بداية المشهد و آخرون ركبوا خيولهم لمتابعته و الدوران حوله و منهم من انشغل في عد أصابع يديه و تفحص ازرار لباسه الغريب و قبعته الدائرية و الإلحاح عليه بالنطق بلا الاه إلا الله و شهادة الإسلام في جو من التعجب و ترديد عبارات الهيللة و سبحان الله …
مشهد عجيب لزائر غريب : ثلاثة قرون بعد فيالق البرتغاليين المسلحين علي شواطيء بحيرة اركًين ، قرنين من الزمن قبل تعود الناس علي “السائح ” الأوروبي المعاصر و قرن قبل مشروع كبولاني بإنشاء مستعمرة ” موريتانيا الغربية”.
اقتيد الرحالة الابريطاني أمام خيمة الأمير اعل ، “الرجل العربي المسن ذو اللحية البيضاء” ( حسب وصفه) ، الذي كان يجلس فوق سجادة جلدية سوداء ( الويش أكحل) يقص بعض الشعيرات من شنبه و بالقرب منه سيدة تحمل له مرءات صغيرة : نظر الأمير بهدوء إلي الرجل الأوربي و سأل هل يتكلم العربية و بعد استغرابه لجوابه و التعجب من هدف رحلته أمر بأخذه إلي مكان يبيت فيه حتي يرتب له أوضاع اقامته و أتوه بخنزير بري أشار إليه الأمير بذبحه للعشاء.
كان ذلك فحوي اللقاء الأول بين الأمير و الرحالة ، بين السلطان الهادئ القوي و الضيف الغريب ” المسكين “.
و نظرًا لتحاشيه ذبح الخنزير البري ارسل له بعض الذرة للعشاء في الليلة الأولي قبل ان يزوره في الصباح ليتفقد أحواله صحبة ستة فرسان و يشير اليه بتحضير مكان لايوائه عن حرارة الشمس و برد الليل و هو عبارة عن عريش مربع مغطي بأوراق الشجر.
هكذا كان البرتكول الاستقبالي للرحالة المغامر المقيم في مخيم بانعوم ( من مارس حتي يونيو 1996 ) و أحضر قربه الخنزير “الرمزي” الذي تحاشي ذبحه ، رغم شغف الاوربيين بلحوم هذه الدواب، لكي لا ينفر ساكنة المخيم منه.
أتاح هذا المقام الإجباري للمبعوث الابريطاني “السري” فرصة الإطلاع علي حياة البادية بداية الصيف و مراقبة نوعية تسليح جيش السلطنة الذي يزيد فرسانه علي الألفين و دقة الاحتياطيات الأمنية للأمير الذي لا ينام في مكان معهود و لا يأكل إلا مما أعد أمامه بأيدي يثق بأصحابها و كذلك طبيعة علاقات أولاد امبارك مع جيرانهم ( جاوارات و بمبارا و الماندينغ و الطوارق) و أنواع التبادل التجاري ( الملح ، الذهب، القطن، الحديد….) . كما وفر له لقاء تجار وافدين من المغرب ( الشريف عبد الله مورا ) و من مدينة ولاته ( الشريف عالي ) زودوه بمعلومات قيمة عن طريق القوافل و المسافات بين بانعوم-ولاته-تومبوكتو-جينه-هاوسا من جهة و جارا-تيشيت-تاودني-اكًادير-صويره من ناحية أخري.
لم يضع الأمير اعل بارك في الأغلال و لم يعذبه لانتزاع شهادات منه و لم يمنعه من الحديث لأهل الحي و زائريه و لم يسد أعينه بمنديل أسود مثل ما يعامل به الجواسيس في بعض البلدان ، رغم الشبهات حول مهمته الاستخباراتية و لم يترك رعيته تنهش جسم هذا الرجل الأبيض رغم عمق الأحقاد للنصاري آنذاك كما أنه أحال قرار مجلس أولاد امبارك في موضوعه إلي حين في انتظار عرض “صيده الثمين” علي نسائه و ربما التفكير في جدواي الاحتفاظ به أو مقايضته أو مقاضاته أو توفير فرصة لإخلاء سبيله كما طمأنه به الفرسان الذين جلبوه.
بعد التأكد من عدم خبرة بارك في إصلاح البندقيات و عدم استعداده لإبراز معرفته الطبية حاول أهل الحي توظيفه في مجال الحلاقة حيث كانت أول تجربة مع ابن الأمير اعل الصغير. ( ربما بيكبر ) في خيمة الأمير و التي تبين خلالها عدم صلاحيته لهذه المهمة بعدما جرح رأس الصبي أمام والده في حين أن مرافقه دمبا وظف في جمع العشب اليابس ( لحشيش) لخيل الأمير (ص.115).
فضل م.بارك عدم صلاحيته لأي عمل كوسيلة لتعجيل ارخاء سبيله لقلة فائدته في المخيم.
الاستجواب الثاني :
بعد أربعة أيام من إقامته في بانعوم تفاجأ بارك بإحضار المترجم جونسون ( الذي لم يكن علي علم بتوقيفه) مع رفاقه و بقية أمتعته أمام الأمير و استدعاءه لشرح محتوياتها و كذلك تفتيش بقية اغراضه في عريشه من طرف ثلاثة أعوان للأمير و الإتيان بها لجمعها في حقيبة جلدية مودعة في خيمة الأمير ‘ خوفًا من الأيادي الطائشة ، حتي يتبين أمر هذا الزائر الغريب (ص.116).
يعكس هذا الاستجواب المتعدد الأبعاد مدي شك قائد أولاد امبارك الشرقيين في أهداف هذا الأوروبي و تحفظهم من نواياه المريبة.
ارتاح المغامر الأوربي لكون المترجم جونسون قد سلم أوراق رسائله إلي احدي زوجاته لترسلها مع احدي القوافل لصديقه الوسيط التجاري د.ليدلي قبل اقتياده إلي بانعوم كي يوصل أخباره للجمعية الجغرافية و أهله في ابريطانيا .
أثار جهاز البوصلة استغراب الأمير نظرًا لإشارته دائما لإتجاه الشرق مما جعله يقلبها كثيرا و يسأله عن أهميتها.
استدرك المستكشف المغامر حساسية الموضوع و شرح للأمير أن البوصلة هدية من أمه تبين له مكان وجودها و في حالة وفاتها تبقي الإبرة في اتجاه قبرها لتدله عليه !
رد الأمير الجهاز الغريب إلي الرحالة و جمع أغراضه في حقيبة جلدية كبيرة ( تاسوفره) ليضعها في ركن من خيمته مبينًا له وضعها في مكان آمن حتي يحين موعد رحيله و خوفًا عليها من الأيادي و الضياع.
يتبين جليًا تشابك الأبعاد الأمنية و الإنسانية و الجمالية في قصة ” الجاسوس المسكين” و ” الضيف الغريب ” و ” المغامر النصراني” و ” التحفة البشرية” ذو زي لندني بين خيام الصحراء الذي خصص وجهاء السلطنة اجتماعًا لبحث موضوعه (ص.117) و ظل سكان أسكرة أهل بهدل يتناوبون للإطلاع عليه نهارًا و بعضهم يوقد حزمة حشيش ليراه ليلًا أو يدل آخرين علي مظهره الغريب.
اعتبر بارك نفسه سجينًا ( دون أغلال) و ضحية لأشكال من التعذيب حين كان سكان الحي يتفحصون تصميم ملابسه و يعدون أصابع رجليه و يتعجبون من أزرار قميصه و لون بشرته و شعر لحيته ، وحينما حاول الابتعاد إلي ظل شجرة مسافة من المخيم تبعه فرسان أمروه بالرجوع الي مكان عريشه تحت التهديد و اقتياده إلي خيمة الأمير ، الذي كان يقلب بندقية و يتفحص مخزونها ، و أمره ، بعد إلقاء نظرات اشمازاز عليه ، بعدم التحرك خارج الحي و الا يعتبر ذلك محاولة هروب و يعطي الإذن لأول من رآه برميه بالرصاص(ص.119).
عكف “الأسير ” علي تعلم اللغة العربية ، التي كان مصطحبًا في أمتعته بكتاب حول قواعدها (Arabic Grammar لريشاردسون ) مما جعل ذلك منفذًا له من إهانات المتطفلين عليه بانشغالهم بجواب اسئلته عن حروفها و كتابتها علي التراب و نطق رسومه علي الرمل.
و تمضي أسابيع من شهر رمضان (مارس-ابريل 1796 م) علي المغامر بارك متكيفا مع مناخ الصحراء الحار و حياة البدو التي كان ينتبه لكل تفاصيلها حين كتب ، بعد ذلك، عن طبيعة الاعتماد علي التنمية الحيوانية و أهمية الابل و كثرة الأغنام و جمال الخيول التي يعتمد عليها فرسان أولاد امبارك في تحرك جيشهم…
اصطحب “السجين المدلل” الأمير اعل في رحلة للقاء أربع سيدات ( و صفهن بارك بزوجاته) قدمن له أقداحًا من اللبن الممزوج بالماء ( ازريكً) متعجبين من شكله و لون جلده الأبيض و طرحن عليه بعض الأسئلة عن بلاده و حياة قومه ملاحظًا حجمهن ” الكبير” و حياء أعين لم تر قط مثل هؤلاء الغرباء من عوالم الصليب و كانت “ترمش” استغرابًا لقرب البعيد و فواصل الاختلاف(ص122).
كما رافقه في رحلة للقاء ” الملكة فاطمة” العائدة من منتجعات الشمال( موضوع استدراجه الرسمي ) و التي كان حب إطلاعها سببًا في الإتيان به من بعيد و انتظار لقائها منقذًا له من تطبيق بعض توصيات مجلس أعيان أولاد امبارك الذي اجتمع في خيمة الأمير ( يوم 18 مارس 1996) لبحث موضوع مصيره(ص.117).
و حسب ” تسريبات” من سكان الحي وصلت مسامع الرحالة الموقوف فإن بعض الوجهاء طلبو من الأمير قتله و آخرون بقطع يده اليمني و أخبره ابن الأمير الصغير (الذي كان عمره حوالي تسع سنوات حسب تقديره) بمحاولة عمه إقناع والده بانتزاع ” عينيه الزرقاوتين مثل أعين القط” ليرد الأمير بانتظار رؤية فاطمة له قبل تطبيق العقوبة المناسبة عليه.
و يدل هذا الاجتماع علي أهمية الموضوع عند أعيان أولاد امبارك و طريقة مشاوراتهم السياسية مع استحضار البعد الأمني لخطورة مثل هؤلاء الزائرين من عوالم ما وراء البحار.
كما أن البعد الرمزي لتلبية رغبة الأميرة الأمباركية من طرف فرسان أولاد امبارك و سلطانهم في استدراج هذا الأوروبي ، مهما كان ذلك نظريًا ، و دورها بعد ذلك في إيجاد مخرج إنساني للرحالة المغامر ( بإرجاع فرسه و بقية متاعه ) و الذي استعطف خواطرها بعدما ضاقت عليه السبل و تجرع ألوان المعانات . و قد احتفظ ببعض كوابيسها بعد رجوعه إلي شواطيء نهر التاميز بلندن و حقول فولشلدس بقرية ذويه ؛ مما جعل بعض المحللين الابريطانيين يشيرون الي وجود “مسكوت عنه ” أو “ما لا يمكن ان يقال ” في هذه الرحلة الاختراقية لتخوم صحراء الملثمين.
شاهد علي العصر
كان م.بارك ، أيام مروره بسلطنة أهل بهدل ، شاهدًا علي أحداث تبين بعض جوانب العلاقات السياسية و العسكرية في تلك المنطقة: الملك البمباري مانسونكً يطلب من الأمير الامباركي مائتي فارس لاعانته علي الهجوم علي ملك كارتا المتحصن في مدينة كًدينكًوما ، ثوار كارتا يطلبون المساعدة العسكرية لرد هجوم مرتقب من طرف ملكهم ديزي مقابل مبلغ من الذهب، مخيم بانعوم يرحل بسرعة بأوامر أحد أبناء الأمير نظرًا لاقتراب جيش البامبارا من المنطقة و أغلب سكان جارا يحملون امتعتهم و يقودون مواشيهم خوفًا من هجوم الملك ديزي عليهم عقابًا علي ايوائهم لثوار كارتا .
و كذلك أزمة صراع نفوذ بين ممالك كاصون و كاجاكًا و زيارة عشرة فرسان من فوتاتورو لكاصون مطالبين الملك دمبا سكًو جالا و السكان بامتثال تعاليم الإسلام و نطق ” إحدي عشر صلاةً علي النبي” كبرهان علي ذلك بتوجيه من ملك فوته الالمامي عبد القادر كان ، ضمانًا للتضامن معهم في الحرب المحدقة.
كما تحدث الرحالة الأوربي عن مناطق تحكمها قبائل “كًدموله ” Ghedemula و “جافونو ” Jafunu في أرض البظان و أشار إلي لبراكنه و اترارزه كأقوي ( formidable) سكان المناطق الغربية آنذاك.
عاصرت سنة مرور بارك من الأمراء في الفضاء الحساني تقريباً ، حكم سيد أحمد ولد عثمان ولد لفظيل في آدرار و اعمر ولد المختار ولد آقريشي في لبراكنه و محمد ولد امحمد شين ولد بكار ولد اعمر في تكًانت و اعمر ولد المختار و لد اعمر ولد اعل شنظوره ( اعمر كمبه) في اترارزه.
الهروب المسهل و فرصة الانطلاق:
مع أخبار اقتراب جيش ملك كارتا ديزي من ضواحي جارا لمعاقبة سكانها علي احتضانهم الثائرين “الكرتين” انسحب بهدوء الرحالة التحفة حاملًا خنشة من الشعير و لجام فرسه متسللًا بين السكان المغادرين للمدينة خوفًا من فتك الجنود و سلب الحريات.
ليجد نفسه ، بعد أيام، “متابعًا ” في مدينة كيرا Quira ببعض فرسان أولاد امبارك صحبة أحد الرعية المقرب من الأمير ، تحدثا عن إرجاعه إلي بانعوم و هم أحدهما بإبعاد فرسه قبل أن يقنعه الآخر بعدم قدرته علي الهروب علي مثل هذا الحصان الهزيل .
هل كانت محاولةً أخري لسد الطريق أمام مشروعه الضبابي الأبعاد ؟.
لاذ المغامر بالفرار آخر الليل عندما أكد له المترجم جونسون نوم الجميع ، سالكًا طريقه عبر الغابات و القري إلي سيكًو و ضفاف نهر النيجر حيث لقي تحفظًا آخر من ملك البامبارا الشرقيين مانسونكً ( الذي أهداه خمس آلاف من عملة الكوري و اعتذر عن لقائه لعدم تبين هدف زيارته) كما أوصاه السكان بالسعي بعيدًا عن جوار سيكًو و المدن القريبة لوجود أوامر “عليا” بإيقافه ليعود من مدينة سيلا ( شرق سيكًو) ، عبر مهامه الغابات المبللة و ضفاف الأنهار، إلي بيزانيا علي نهر غامبيا قبل رجوعه إلي ابريطانيا ( نهاية دجمبر 1997) سنتين و نيف بعد مغادرته ميناء بورتسموث Portsmouth إلي شواطئ إفريقيا الغربية : رحلة تشابكت في طياتها أبعاد الاختراق الإستراتيجي مع إكراهات الخرائط القديمة و الاعتبارات الأمنية إضافةً إلي فواصل الاختلاف بين عالمين علي أديم تجاذبات مشاعر الانبهار و الشفقة و الكراهية و حب الإطلاع و التردد و إرادة الحياة.
سيد محمد بن عبد الوهاب