مجلس الفتوى يفتي بجواز الانتساب لصندوق التأمين التضامني {اكناس}
الأصالة: في دورته المنعقدة اليوم 07 مارس 2024 أصدر المجلس الأعلى للفتوى والمظالم فتوى تتعلّق بالانتساب للصندوق الوطنيّ للتأمين التضامُنيّ المعروف بـCNASS، وقد درس المجلس موضوع التأمين التضامني دراسة مستفيضة، واطّلع على النصوص المنظمة لعمل الصندوق والخدمة التي يُقدّمُ، ومدى الحاجة العامة والضرورات الخاصّة لهذه الخدمات الصِّحِّيّة، وخلُص المجلسُ إلى جواز الانتساب للصندوق الوطني للتضامني، وإليكم نصّ الفتوى:
الملف 077: / 2023 الموضوع: الانتساب للصندوق الوطني للتضامن الصّحِّيّ (اكناس)،
السؤال:
حول مدى شرعية الانتساب للصندوق الوطني للتضامن الصحي (اكناس)؟
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
وبعد فعلى الرغم من أن كلمة “التأمين” التي يشتمل عليها عنوان المؤسسة، تسهِّل انصراف الذهن بسرعة إلى التأمين التجاري الذي استقرت المجامع الفقهية على تحريمه لاشتماله على غرر كبير، ولأنه لا يقصد منه إلا الربح، فإن المتأمل في عقد التأمين الصحي التضامني الذي تقوم به مؤسسة (اكناس) التابعة لوصاية وزارة الصحة، والذي تهدف منه إلى تقديم الرعاية الصحية إلى المنتسبين لها، يدرك بجلاء الفروق الشاسعة بين التأمينين: وصفا، وقصدا وغاية وتنظيما، الشيء الذي يحتم دراسته دراسة متأنية، تحدد طبيعته وأهدافه وتنظيمه، والقصد من إنشائه، ومن أي أنواع العقود هو: هل هو عقد معاوضة صرفة؟ أم هو عقد معاوضة غير محضة، لأن المال فيه غير مقصود من الجانبين، والمراد به إنما هو تعزيز المنظومة الصحية وتيسير خدماتها، وتسهيل الوصول إليها لمن لا تشملهم خدمات التأمين الصحي التي تقتصر خدماتها على عمال وموظفي القطاعين العام والخاص.
في حين أن ما تقوم به مؤسسة (اكناس) عبارة عن توزيع تكاليف الرعاية الصحية لغير المشمولين بالتأمين السابق على عموم المنتسبين، أم إنه عقد تبرع لقلة ما يدفعه المنتسب له بالمقارنة مع ما تصرفه الدولة من ميزانيتها عليه، فهو أشبه بالتكفل التام أو التكافل الاجتماعي، ثم ما هو المعقود عليه فيه؟ هل هو ذات معينة فيكون بيعا؟ أم المعقود عليه فيه منفعة حاضرة فيكون إجارة؟ أم المعقود عليه هو ذات ومنفعة معا في آن واحد فيكون جامعا بين البيع والإجارة؟ أم إن المعقود عليه فيه ذات أو منفعة موصوفة في الذمة فيكون سلما؟ أم إنه عقد جعالة يتم فيه الالتزام بعوض معلوم على عمل معلوم أو مجهول ولا يبطله الغرر؟ وإذا كان العقد مشتملا على غرر فمن أي أنواع الغرر الثلاثة المعروفة؟ هل هو من الغرر الممنوع إجماعا؟ أم من الغرر الجائز إجماعا؟ أم هو من الغرر المختلف فيه بحسب قربه من واحد من الاثنين؟
المجلس الأعلى للفتوى والمظالم خلال دورة سابقة له
وبعد دراسة المجلس المتأنية لهذه الأمور كلها، والوقوف على أحوال المستفيدين الاجتماعية والاقتصادية، ودرجة احتياجهم للعلاج ومدى قدرتهم عليه واعتبار أن أغلبيتهم من الفقراء والمساكين، أو من ذوي الدّخل المحدود ولا تستطيع مواجهة الأمراض المستوطنة المتصاعدة، ولا الأوبئة الوافدة المُعدِية، وأنّ أكثرَها من الشيوخ والأطفال والأمَّهات والحوامل، والأمِّيِّين العاطلين عن العمل الفاقدين لكل خبرة أو مهنة سيما وأن الدولة، أية دولة لم يعد بمقدورها مواجهة أعباء العلاج والوقاية والمتابعة بالمجان، فضلا عن أن يكون بوسع الفرد أن يستقل بتحمل تكاليف رعايته الصحية.
وبعد ذلك كله تم استحضار القصد الأصلي من التكليف شرعا، والمقاصد الشرعية العامة والخاصة للعقود والمعاملات والقصد الاجتماعي البحت من إنشاء المؤسسة، واستطراد أقوال العلماء في أقسام الغرر الثلاثة ما يغتفر منه وما لا يغتفر، وقاعدة المالكية فيما يجتنب فيه الغرر، وهو باب المماكسات والتصرفات الموجبة لتنمية الأموال، وما يقصد به تحصيلها، وما لا يجتنب فيه الغرر، وهو ما لا يقصد لذلك، وتأثير الحاجة التي تنزل منزلة الضرورة في المحرمات، وعناية الشريعة بالحاجيات عناية تقترب من عنايتها بالضروريات، واعتبار القلة مؤشرا على اليسارة في الغرر لقول المختصر: (وجازت مبادلة القليل المعدود دون سبعة) وقوله: (وجزاف إن ريئ ولم يكثر جدا) والإجماع على رفع الحرج العام والخاص المؤديين إلى المشقة الزائدة على المشقة العادية التي يمكن أن تؤثر في النفس والبدن فتمنع من العمل أو تدفع لانقطاعه إن كان قائما، وللقاعدة المشهورة المجمع عليها: المشقة تجلب التيسير.
واستنادا لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج: 76، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} المائدة: 06، وقوله تعالى: {لَّیۡسَ عَلَى ٱلضُّعَفَاۤءِ وَلَا عَلَى ٱلۡمَرۡضَىٰ وَلَا عَلَى ٱلَّذِینَ لَا یَجِدُونَ مَا یُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِۦۚ مَا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِینَ مِن سَبِیلࣲۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ} التوبة: 91، وقوله تعالى: {یُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَـٰنُ ضَعِیفࣰا} النساء: 28، وقوله صلى الله عليه وسلم: كما في صحيح البخاري: «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا…» الحديث، إلى غير ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الموضوع.
مع العلم أن الشرع أباح عقودا كثيرة الأصل فيها التحريم؛ فأباحها للحاجة فيها كالإجارة؛ لأنَّ العقد فيها واردٌ على منافعَ معدومةٍ تنشأ شيئا فشيئا، والسلم والأصل فيه الحرمة؛ لأنَّه عقد على معدوم حين إبرام العقد، ومعلوم أن العقد على المعدوم في الأعيان والمنافع غير جائز لحديث حكيم بن حزام رضي الله عنه المشهور: «لا تبع ما ليس عندك» وأباح القرض؛ وهو عقد ربوي في الأصل، إضافة إلى ما أجازه العلماء من دخول الحمام بأجر مع جهالة مقدار الماء المستعمل ووقت المكث، وشراء الدار مع جهل أساسها، وشراء كلب الصيد للحراسة والزراعة، وكذلك ما أصبح معروفا فاشيا معمولا به بين عامة العلماء من شراء الوجبات دون وزن ولا كيل، والأكل في المطاعم إلى غير ذلك مما لا يحصى.
والرعاية الصحّيّة اليوم دائرةٌ بين الضرورة والحاجة؛ فهي إما ضرورة خاصَّة وإما حاجة عامة، ومن المقرَّر عند العلماء أنّ تحريمَ عقد الغرَر معلَّلٌ بما قد يؤَدِّي إليه من البغضاء وما قد يجرُّ إليه من العداوة، وقد قال بعضُ المحقِّقين من العلماء: إنّ ما حرُم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة، وهي من القواعد المعروفة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل” [إعلام الموقّعين عن رب العالمين: 2/ 108].
وهذه المفسدَة المحتَمَلَةُ في الغرر هنا لا تُوزَنُ بالمصالح العامّة والخاصَّة المحقَّقَة في هذا العقد؛ فالشريعة جميعها مبنية على أنَّ المفسدة إذا عارضتها حاجةٌ راجحة أبيح المحرَّم.
ومن القواعد المقرّرة في مذهبنا أنّ “الحاجي الكلّيّ” أي الحاجَة العامّة تُنَزَّلُ منزلة الضرورة الخاصّة، وهو أصل توسّع المالكية كثيرا في بناء الفروع عليه، وعدّوه في القواعد والأصول التي تنبني عليها أحكام البيوع والمعاملات يقول ابن العربيّ: “القاعدة السابعة اعتبار الحاجة في تجويز الممنوع كاعتبار الضرورة في تحليل المحرم” [القبس في شرح موطّإ مالك: 2/ 790]، ويقول المواق بعد أن نقل أمثلة من الإجارات المجهولة: “ومن أصول مالك أنه يراعي الحاجيات كما يراعي الضروريات” [التاج والإكليل: 7/ 496]، ثم يسوق نماذج مما نقل عن الإمام وتلاميذه من إجازة بعض العقود الممنوعة للحاجة إليها مثل تأخير النقد في الكراء المضمون.
وتناول الإمام الشاطبي هذا الأصل بشيء من التفصيل أثناء حديثه عن قاعدة الاستحسان قائلا: “وله في الشرع أمثلة كثيرة كالقرض مثلا فإنه ربا في الأصل؛ لأنه الدرهم بالدرهم إلى أجل، ولكنَّه أُبيح لما فيه من الرفق والتوسعة على المحتاجين، بحيث لو بقي على أصل المنع لكان في ذلك ضيقٌ على المكلفين […] وسائر الترخصات التي على هذا السبيل، فإن حقيقتها ترجع إلى اعتبار المآل في تحصيل المصالح أو درء المفاسد” [الموافقات: 4/ 440].
وقد أخذ به سائر فقهاء المذاهب من الحنفية والشافعية وغيرهم حتى إن المتأخرين من أتباع الإمامين مالك وأبي حنيفة يتوسعون في التعامل مع المصالح الحاجية أحيانا مع مخالفة نصوص الإمام بناء على ما فهموه من قواعد إماميهما [صناعة الفتوى وفقه الأقلّيات: 474] فالاعتماد إذا على المصلحة الحاجيَّة، والاستناد لها في مثل هذه الأحكام لسدِّ الحاجة العامة ورفع الحرج والضيق أمر أقَرَّه الشَّرعُ، وعمِل به الأئمّة.
ومن مقاصد الشرع اعتبارُ الحاجة ورفع الضيق المؤدِّي إلى الحرج، وقد ذكر علماؤنا أنّ “الحاجيات وإن كانت أدنى رتبة من الضروريات باعتبار أن الضروريات هي الأصل إلا أن الحاجيات مكملة لها، والمحافظة عليها وسيلة للمحافظة على الضروريات”.
بناء على ما سبق، وبعد الاطِّلاع على النصوص المنظِّمة لعمل الصندوق الوطني للتضامن الصحِّي المعروف بـCNASS، واستئناسا ببعض الفتاوى والقرارات الفقهية كقرار المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث رقم: 92/ 2/ 20 بجواز التأمين الصحي حتى مع شركات التأمين التجاري إذا لم يوجد غيرها للضرورة والحاجة؛ واقتناعا منا بالحرج البالغ والمشقة المؤثرة في تحريم التأمين الصحي (التضامني) المنظم من طرف مؤسسة (اكناس) التي تمولها الدولة بنسبة قد تفوق ثمانين في المائة – علما أنّ رفع الحرج يكون بالكف عن الفعل الموقع فيه، وبإباحة الفعل المحرم عند الحاجة إليه – بناءً على ذلك كلِّه، فإننا نرى جواز الانتساب إليها والتعامل معها رفعا للحرج ومنعا للمشقة الزائدة.
والعلم عند الله تعالى