ا- سيما المظهر وجلال الموروث
لمدينة ولاتة في نفسي أثر عزيز، تَرَسّخَ منذ فترة ليست باليسيرة، صورةُ هذا الأثر حفظتُها لإحدى أقدم المدن التاريخية وأهم المراكز الحضرية في بلاد شنقيط -موريتانيا- عندما حَلَلْتُ بها 2018، لفرط اشتياقي إليها.
هذه المدينة العتيقة العظيمة الأصيلة بمسجدها القديم الذي يعد نهايةََ في الإتقان، ويُقال إنه بُنِي على رأس القرن الثاني الهجري، ومكتباتها وبيوتاتها، وتاريخها وزواياها، وأزقتها المتلاصقة، تُضاهى هذه الحاضرة في بساطتها وجمالها ما ليس فى سواها، وتحوى وثائق نادرة سدت فراغا كبيرا في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية في بلاد شنقيط والغرب الإسلامي.
يَسحرُكَ فن عمران المدينة، وهيبة أهلها، ولا نبالغ إن قلنا: إنها جنة (الحوظ) وخاتمة أخواتها من المدن التاريخية.
إن أقدم كتاب طبقات تَرجَم لعلماء شنقيط -موريتانيا- هو: (فتح الشكور في معرفة أعيان علماء التكرور) للطالب محمد بن أبي بكر البرتلي المولود: 1140-1219 للهجرة، 1727- 1805م، وينتمي المؤلِّف لولاتة، وأول مصنف نحوي كان من إنتاج أحد أعلام ولاتة، وهو شرح الأجرومية للعلامة: اند عبد الله بن سيدي أحمد المحجوبي، وكان حيا سنة: 937 هجرية، 1526م، وتوفي: 1037 للهجرة، 1625م.
تقاوم ولاتة النسيان، وانطلاقا من قراءاتنا وسماعنا وما عشناه فأكاد أجزم أنه لم يبق من المدينة المشهورة إلا رسومها وأطلالها، “وهي آخر مدن شنقيط مما يلى (بنباره) وأهلها عرب وجُلُّهم أو كلهم من الزوايا وفيها علم وصلاح” كما يفيد: أحمد بن الأمين الشنقيطي في موسوعته: الوسيط في تراجم أدباء شنقيط.
تتزين المدينة بانسجام عمرانها وهدوئها، وما تأويه من رموز الثقافة ومصادرها القديمة، وتُنادي القادمين إليها أن هلموا إلى تراث فكري مكتوب، يتناول فروعا عديدة من المعارف العربية والإسلامية.
يعتز الولاتيون بمدينتهم ويفخرون بنسبتهم لها، دون أن أبوح بما يسحبونه على غيرهم بداهة من وصف (الرّحالَه) البُداة، فهذا المحجوبي يقول:”لم أخرج من القصر… إلا سبع مرات في الوفود”.
ب- من التاريخ إلى مقاومة عوادي الزمن
ذكر ابن بطوطة المتوفى 1377للهجرة، 779م في رحلته أنه أقام “بإيولاتن نحو خمسين يوما، وأكرمنى أهلها وأضافونى”، ووَصَف حَرّها ويسير نخيلات بطرقاتها، وحُسْنَ ثياب القوم، وأن أهلها: “مسلمون محافظون على الصلوات، وتعلم الفقه وحفظ القرآن”،
وشهدت المدينة ازدهارا ثقافيا كبيرا خلال القرنين 11 و 13 الهجريين، ويُعَدُّ: يحي الكامل المحجوبي -جد قبيلة لمحاجيب- مؤسس ولاتة، ويعود له الفضل في انتشار العلم بالمدينة، ويُحكي أنه وصَلَها خلال القرن 5 الهجري، ال 11م، وإلى المدينة ينتمى حفيده: الإمام العلامة القاضي المؤرخ: الطالب أبو بكر بن أحمد المصطفى المحجوبي (1335-1917) صاحب:(منح رب الغفور في ذكر ما أهمله صاحب فتح الشكور)، الذي يضم 185 ترجمة لأعلام المدينة، وحوى الكتاب -الذي يعد امتدادا لفتح الشكور- مجموعة هامة من الوقائع التي حدثت خلال قرن وربع (1201، 1325هجرية، 1786، 1908م)، وكان مجال تلك الأحداث جغرافيا بلغة المحجوبي:”قصور إقليمنا: تيشيت، آغريجيت، وادان، شنقيط، النعمة، باسكنو، تنبكتو، أروان”، وهي أهم أحواز بلاد التكرور، وعَرَفت محاظر ولاتة تفوقا علميا نادرا فخرجت العلماء والقضاة والخطباء، كما هو الحال مع العلامة الموسوعي أبو التاريخ الموريتاني: محمد صالح بن عبد الوهاب الناصري (1272، 1855) الذي ولد بولاتة وبها تلقى العلم، وشغل منصب قاضِِ في دولة أولاد امبارك، ونفس الأمر حصل مع العلامة الأصولي الفقيه: محمد يحي بن محمد المختار العلوشي الداودي (1330، 1912) عندما تم تعيينه من ولاتة قاضيا للقضاة عام (1284، 1867) من طرف إمارة مشظوف”.
تأسست (بيرو) في القرن الهجري الأول، ونشطت بها التجارة الصحراوية مما منحها مكانة في القرون التي مضت، وعرفت المدينة هجرات عربية من بني حسان كأولاد داود اعروك، وأولاد داود امحمد، والشرفاء السجلماسيين: بني سيدي حمو بن الحاج القادمين من (توات)، وغيرهم، وتعاقبت دول عديدة على الحكم بالمدينة، كما في: امبراطورية اليونسيين (أولاد ازْعَيّم)، بولاتة وأحوازها، قبل أن يزحفوا إلى (ليره)، و(فيته) بمالي المجاورة. ومنهم العلامة المجتهد فريد عصره: محمد يحي بن سليمة اليونسي الداودي المتوفي: 1354 للهجرة، 1935م.
في ولاتة: يربض العلم الوافر مع سلوك المدنية المتأصلة، ويُنسيكَ كرمُ المعشر ولطف الحديث تنوفة الصحراء، وشط المزار، ورياح الرمال.
ج- واحة الأنس ومجهر الثقافة
لا يدخل المدينة قادم إلا ورأى في وقار مظهرها وانبعاث أصواتها بدائع طراز البناء وأنماط الزخرفة بفن متميز أَخّاذِِ، وتحدثك معالم المدينة المشهورة عن أم المكتبات لأهل الطالب أبو بكر، والتي أحصي بها مؤخرا (1000) مخطوط، وأطلال (قرب) أي مقام وسكن العلامة الولي الحافظ العارف بالله -خالنا وأبونا- : سيدي محمد بن الحاج عبد الله بن بوردة العلوشي الداودي، وهو مَزار معلوم بولاتة، وقد توفي أشهر العلماء والصالحين هذا : 1187 هجرية، 1774م، وتحدثك أطلال المدينة عن: مدرسة أهل شيخنا محمدي بن سيدي عثمان التاكاطي نسبا الداودي وطنا، وهو أحد أجلاء أهل ولاتة علما وفضلا وجاها ومالا، توفي: 1335، أو 1337 هجرية على خلاف في ذلك، وورثه في العلم والمكانة ابنُه: العلامة: شيخنا ابّ بن محمدي. المتوفى: 1409 للهجرة، 1989م.
ويُنبِئُكَ تاريخ ولاتة عن: المشبرات
كدار أشبار بيت إمارة أهل امحيميد،
ودار أهل يب، ودار اعلات بها اشباره مشرفة على رحبة بارتيل، والممر الرابط بينها وبين أكدن، وَدَوْرُ تلك الابتكارات الدفاعي في حالة محاولة الغزاة اختراق سور المدينة، فيستهدفهم القناصون بسهولة وهم مختفون خلف الحيطان متمترسون، ويُحكي أنه كان بالمدينة ثلاثة آبار أشهرها بير أنبوي بن بوب وهو في الرحبة المعروفة به، وفي رحبة بارتيل بير تحت عتبة دار محمد جدو، والثالث في رحبة اب عال المعروفة اليوم برحبة أهل علال، وبالمدينة أيضا: ظليلة المحاجيب بين دور أولاد سيدأحمد، والطريق منها إلى رحبة أولاد سيد أحمد أشهر معالمه: بنبري شرق دار أهل حم انباب ودار أشبار والممر الضيق المعروف بازليلكات، ومن الدور المشرفة على الظليله دار أهل محمد بوكفه.
جرت العادة في: مدينة ولاتة أن تكون حلقة الحديث التي تلتئم بين الظهر والعصر، أو المغرب والعشاء في أَجَلِّ بيوتات المدينة، ويُختارُ لإدارة ورئاسة الدَّرْسِ أهل الحفظ والإتقان من كبار العلماء، وقد عُهِد بها لفترة إلى: شيخنا العلامة: المرواني بن محمد المختار ولد احمادو الجعفري الداودي، في داره، ت: 1943م، وغني عن القول أخذُه عن الفقيه الأصولي: محمد يحي بن محمد المختار العلوشي الداودي ت:1912م، والذي أجازه في الحديث، ثم انتظمت الحلقة في دار أهل اب عيني، مع خاتمة الحفاظ -خالنا- الفقيه: ابّو بن جودتِّ العلوشي الداودي، ت: 12/1984، وتلقى: ابو ولد اب عيني علم الحديث عن: المرواني ولد أهل احمادو، وأجازه في الحديث، قبل أن يرحل الأول، ويستقر في: باسكنو، عند ما جادَ لنا به الزمان الأَجْوَدُ، وذلك فضل الله يوتيه من يشاء.
في ولاتة يقدمون لكَ وجبة (المون) التي تصنع من الحبوب -الزرع- (مترى عندنا)، ويضاف إليها بعد الإعداد قليل من الدسم واللحم المطحون (التيشطار عندنا)، ويقدمون لكَ شربة ( سنكتى)، أو (الدقنو)، وهي من الزرع الخالص أيضا، مشفوع بمادة عصير محلي يدعى (تجمخت)، وخَلْطَة من الفلفل الحار -اشروط بلهجتنا المحلية- والسكر.
ويحدثك تاريخ ولاتة المرقون عن: نزل الحاج مرجان أحد أمراء السنغاي بمالي، وموضع (المسك)، ووقعة تِنمُل، ومجيء شنان العروسي، كما تثبت الحسوة البيسانية في علم الأنساب الحسانية، وعن أيام: أولاد علوش، وأهل بوردة، وأولاد زيد من قبيلة أولاد داود، وقوتهم وحضورهم هناك، وما توارثه القوم من المجد، كما في موسوعة المؤرخ الكبير: المختار بن حامد، ويحدثك تاريخ ولاتة عن خسارة (رفكة ولاتة)، وحديث بطحاء صنصدى، وتاودنى، وصبْرى، ومجيء سله الفلاني لولاتة، فكانت المدينة بهذا سوق علم وثقافة عربية وإسلامية، ومحطة كبرى للقوافل والأنشطة الاقتصادية، وبها دارَ الصراع للتحكم والسيطرة.
د- إحياء الدور الطلائعي وابتعاث المكنون
تعد مدينة ولاتة أقدم الحواضر الصحراوية وأكثرها إشعاعا، ومثلت بحق منارة علم ومعرفة، وكانت أولى ملاذ فقهاء تنبكتو وشيوخه، وقد ورِثت الأولى الثانية معرفيا، وقد ازدهرت بها المحاظر، وتميز وسطها المعرفي بكثرة علمائه وتعدد مدارسه الثقافية، وتنوع مصادره المعرفية.
في أوج هذا التألق الثقافي والعلمي للمدينة، كان لكل حي مدرستُه الخاصة يقصدها الطلاب المقيمون والوافدون، فاشتهرت دُورُ هذه المدارس، وبرز عطاء دار تلاميذ لمحاجيب، ودار تلاميذ الاقلال، ودار تلاميذ أولاد داود، ودار تلاميذ بارتيل، ودار تلاميذ إديلبه.
يُنتظَرُ من نسخة مدائن التراث 2023 هذه -على ما لَها من الأهمية- أن تركز على ما يعزز تاريخ الثقافة العرببة العربية الإسلامية في هذه المدينة من جهود، تُثمِر تبيين غوامضه، وتُعرّف بأعلام ومعالم حاضرة ولاتة، وتساعد في تحقيق ونشر التراث في ميادين الفقه والنحو واللغة والشعر، ولترسم هذه الجهود التى نتطلع إليها في النهاية صورة وضاءة لعلاقات الأخوة والألفة والتبادل العلمي والاقتصادي ببن حواضر الصحراء الكبرى وشعوب التكرور في نطاق الشراكة الحضارية الإسلامية الجامعة، والاستثمار في تلك الجسور.
فالمدن القديمة بإهمالها والارتحال عنها يَبْذَعِرُّ سكانها، ويتناقض عمرانها، وينطوى ذلك البساط جملة بما عليه، وتفقد العلم بها والتعليم، وينتقل إلى غيرها من الأمصار، كما يقرر: ابن خلدون في: المقدمة، بتصرف.
ندعو إلى تدشين جامعة عصرية بولاتة، تُعنى باستنهاض الحركة الثقافية في البلاد، وبناء دار للطباعة والنشر، وإنشاء المزيد من مراكز الدراسات الولاتية، وتشييد: مكتبة رسمية للثقافة.
ونتمنى أن يتم العمل على إنقاذ المعالم الأثرية في مدينة ولاتة من مكتبات أهلية، تحوى نفائس المخطوطات النادرة.
ونوجه -من موقعنا كمهتمين- نداء عالميا لتنفيذ مشروع علمي عمراني متكامل، تدعم أنشطتُه المقترحة ترميم المباني بالفن المعماري لمدينة العلم والعبادة، وابتكار مصالح ومُنشآت لتوطين الناس بولاتة، حتى ترجع من جديد مأوى لكبار العلماء والباحثين، وكعبة لطلاب العلوم الشرعية والعربية، مُواصلَة ازدهارها ومَدّها الثقافي، فينتبه إليها العالَم، وننجح نحن في إحياء موروثها، وما يكتنف من قيمة حضارية، تَحُفّها تحديات صارخة وحَرِجَة.
عبد المالك ان بن حنى، كاتب.